فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لقد جعل الله لهم عذرا في أن يقولوا: أنه قتل أو صلب؛ لأنه شبه لهم وكان من المعقول أن يلتمسوا من الإسلام حلا لهذه المشكلة، لأن الإسلام جاء ليقول: لا، لقد شبه لكم، فما قتلوه وما صلبوه؛ لأن هذا الفعل- القتل أو الصلب- ينقض فكرتهم عن أنه إله أو ابن إله. لأن المصلوب لو كان إلها أو ابن إله، لكانت لديه القدرة التي تغلب الصالب، فكيف يعقل الإنسان أن ينقلب الإله- أو ابن الإله- مقدورا عليه من مخلوق؟ والإسلام عندما يقول: إن عيسى ابن مريم لم يصلب فقد كرمه الله. وهكذا ترى أن الإسلام قد جاء ليصفى العقائد كلها من عيوب التحريف التي قام بها المتبعون لتلك الأديان.
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعرض علينا قضية جدلية حدثت في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يخرج الناس- مسلمين ونصارى ويهودا- من هذه البلبلة، وأن يتم ذلك في مودة، لأنهم كلهم مؤمنون بالعبودية لمعبود واحد. فقد جاء وفد من نصارى نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهؤلاء القوم جدل مع اليهود، ولهم جدل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان لليهود والنصارى معا جدل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والجدل بين اليهود والنصارى مصدره أن لليهود والنصارى قولا متضاربا في بعضهم بعضا يرويه لنا الحق: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113].
فاليهود يقولون: كان إبراهيم يهوديا والنصارى يقولون لا، كان إبراهيم نصرانيا وأما الجدل بين النصارى وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسببه أنهم قد أرادوا ان يتكلموا في مسألة عيسى، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يصفى القضية تصفية نهائية حتى لا تظل معلقة تلوكها الألسنة وتجعلها مثارا للفتن. فلما اجتمع نصارى نجران تحت لواء رؤسائهم، ومن هؤلاء الرؤساء من اسمه السيد، ومنهم من يسمى العاقب صاحب المشورة، ومعهم قسيس، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ماذا تقولون في عيسى؟ قالوا: أنه ابن الله. وقال لهم الرسول: إن عيسى عليه السلام قال: {إني عبد الله} وهو عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ إن كنت قد رأيت مثل ذلك فأخبرنا به.
وهنا نزلت الآية الكريمة: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم راهبا نجران فقال أحداهما: من أبو عيسى؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعجل حتى يأمره ربه. فنزل عليه {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} إلى قوله: {من الممترين}.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {والذكر الحكيم} قال: القرآن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون فتن قلت: فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، هو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (59):

قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم أكد ظلمهم وصور حكمته بمثل هذا الفرقان في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الكاشف لما في ذلك مما ألبس عليهم فقال: {إن مثل عيسى} أي في كونه من أنثى فقط {عند الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا في إخراجه من غير سبب حكمي عادي {كمثل آدم} في أن كلًا منهما أبدع من غير أب، بل أمر آدم أعجب فإنه أوجده من غير أب ولا أم، ولذلك فسر مثله بأنه {خلقه} أي قدره وصوره جسدًا من غير جنس البشر، بل {من تراب} فعلمنا أن تفسير مثل عيسى كونه خلقه من جنس البشر من أم فقط بغير أب، فمثل عيسى أقل غرابة من هذه الجهة وإن كان أغرب من حيث إنهم لم يعهدوا مثله، فلذلك كان مثل آدم مثلًا له موضحًا لأنه مع كونه أغرب اشهر (وعبر بالتراب دون الماء والطين والحمأ وغيره كما في غير هذا الموطن، لأن التراب أغلب أجزائه ولأن المقام لإظهار العجب، وإبداع ما أسكنه أنواع الأنوار بالهداية والعلوم الباهرة من التراب الذي هو أكثف الأشياء أغرب كما أن تغليب ظلام الضلال على الشياطين من كونهم من عنصر نير أعجب).
ولما شبه المثل بالمثل علمنا أن مثل عيسى كل ولد نشاهده تولد من أنثى، ومثل آدم كل حيوان نشاهده تولد من تراب، وما شاهده بنو إسرائيل من خلق عيسى عليه الصلاة والسلام الطير من الطين فهذا المثل الذي هو كل ما تولد من أنثى مثل ذلك المثل الذي هو كل ما تولد من تراب في أن كلًا منهما لم يكن إلا بتكوين الله سبحانه وتعالى، وإلا لكان كل جماع موجبًا للولد وكل تراب موجبًا لتولد الحيوان منه، فلما كان أكثر الجماع لا يكون منه ولد علمنا أن الإيجاد بين الذكر والأنثى إنما هو بقدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته، ومن إرادته وقدرته كونه من ذكر وأنثى، فلا فرق في ذلك بين أن يريد كونه من أنثى بتسبيب جماع من ذكر يخرق به عادة الجماع فيجعله موجبًا للحبل وبين أن يريد كونه من أنثى فقط فيخرق به عادة ما نشاهده الآن من التوليد بين الذكر والأنثى، كما أنا لما علمنا أنه ليس كل تراب يكون منه حيوان علمنا قطعًا أن هذا المتولد من تراب إنما هو بإرادة القادر واختياره لا بشيء آخر، وإلى ذلك أشار يحيى عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سلف قريبًا: إن الله قادر على أن يقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم، أي لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخلق المسببات فلا فرق حينئذ بين مسبب وسبب، بل كلها في قدرته سواء، وإلى ذلك أشار قوله: {ثم قال له كن} أي بشرًا كاملًا روحًا وجسدًا، وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في {فيكون} دون الماضي وإن كان المتبادر إلى الذهب أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويرًا لها إشارة إلى أنه كان مع الأمر من غير تخلف وتنبيهًا على أن هذا هو الشأن دائمًا، يتجدد مع كل مراد، لا يتخلف عن مراد الأمر أصلًا- كما تقدم التصريح به في آية: {إذا قضى أمرًا} [البقرة: 117] وذلك أغرب مما كان سبب ضلال النصارى الذين يجادل عن معتقدهم وفد نجران، قال سبحانه وتعالى ذلك إشارة إلى أنهم ظلموا في القياس، وكان العدل أن يقاس في خرقه للعادة بأبي أمه الذي كان يعلم الأسماء كلها وسجد له الملائكة، لا بخالقه ومكونه تعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
قال الحرالي: جعل سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام مثلًا مبدؤه السلالة الطينية، وغايته النفخة الأمرية، وكان عيسى عليه الصلاة ولاسلام مثلًا مبدؤه الروحية والكلمة، وغايته التكمل بملابسة السلالة الطينية، حتى قال صلى الله عليه وسلم: أنه عند نزوله في خاتمة اليوم المحمدي يتزوج امرأة من بني أسد ويولد له غلام لتكمل به الآدمية في العيسوية كما كملت العيسوية في الآدمية وليكون مثلًا واحدًا أعلى جامعًا {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} [الروم: 27]- انتهى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من جملة شبههم أن قالوا: يا محمد، لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى، فقال: إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابنًا لله تعالى، فكذا القول في عيسى عليه السلام، هذا حاصل الكلام، وأيضا إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس، هذا تلخيص الكلام. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} دليل على صحة القياس.
والتشبيه واقع على أن عيسى خُلِقَ من غير أبٍ كآدم، لا على أنه خلق من تراب.
والشيء قد يشبه بالشيء وإن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد؛ فإن آدم خُلِقَ من تراب ولم يُخلق عيسى من تراب فكان بينهما فرق من هذه الجهة، ولكن شبه ما بينهما أنهما خلقهما من غير أبٍ؛ ولأن أصلِ خلقتهما كان من تراب لأنّ آدم لم يخلق من نفس التراب، ولكنه جعل التراب طينًا ثم جعله صلصالًا ثم خلقه منه، فكذلك عيسى حوّله من حال إلى حال، ثم جعله بشرًا من غير أبٍ. اهـ.

.قال ابن عادل:

{إِنَّ مَثَلَ عيسى} جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها تعلقًا صناعيًا، بل معنويًّا. وزعم بَعْضهُمْ أنها جواب القسم، وذلك القسم هو قوله: {والذكر الحكيم} كأنه قيل: أقسم بالذكر الحكيم أنَّ مثل عيسى، فَيَكُونُ الْكَلاَمُ قد تم عند قوله: {مِنَ الآيَاتِ} ثم استأنف قسمًا، فالواو حَرْف جَرٍّ، لا عطف وهذا بَعِيدٌ، أو مُمْتَنعٌ؛ إذ فيه تفكيكٌ لنَظْم القرآنِ، وإذْهاب لرونقه وفصاحته.
قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} في هذه الجملة وَجْهَانِ:
أظهرهما: أنها مفسِّرة لوجه الشبه بين المثلين، فلا مَحَلَّ لَهَا حينئذٍ مِنَ الإعْرَابِ.
الثاني: أنها في محل نصب على الحال من آدَمَ عليه السلام وقد معه مضمرة، والعامل فيها معنى التشبيه والهاء في {خَلَقَهُ} عائدة على {آدم} ولا تعود على {عِيْسَى} لِفَسَادِ المعنى.
وقال ابن عطية: ولا يجوز أن تكون خَلَقَه صفة لآدم ولا حالًا منه.
قال الزّجّاج: إذ الماضي لا يكون حالًا أنت فيهان بل هو كلامٌ مَقْطُوعٌ منه مَضمَّن تفسير الْمَثَلِ، كما يقال في الكَلامِ: مثلك مثل زيد، يشبه في امر من الأمور، ثم يخبر بقصة زيد، فيقول: فعل كذا وكذا.
قال أبو حيّان: وَفيهِ نَظرٌ ولم يُبَيِّنُ وَجْهَ النظر.
قال شهاب الدِّينِ: والظاهر من هذا النظر أن الاعتراضَ- وهو قوله: لا يكون حالًا أنت فيها غير لازمٍ؛ إذ تقدير قَدْ تُقَرِّبُه من الحال. وقد يظهر الجوابُ عما قاله الزَّجَّاجُ من قول الزمخشريِّ: قدره جسدًا من طين {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} أي: أنشأه بَشَرًا.
قال أبو حيّان: ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء- لا بمعنى التقدير- لم يأت بقوله: {كُنْ}؛ لأن ما خلق لا يقال له: كُنْ، ولا ينشأ إلا إن كان معنى: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن} عِبَارةً عَنْ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ.
وقال الواحديُّ: قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} لَيْسَ بِصِلَةٍ لآدم وَلاَ صِفَةٍ؛ لأن الصِّلَةَ للمبهمات، والصفة للنَّكِرِاتِ، ولكنه خبر مُسْتَأنَف على وجه التفسِيرِ لحال آدمَ عليه السلام.
وعلى قول الزجّاج: {مِن تُرَابٍ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلق بـ {خَلَقَهُ} أي: ابتدأ خلقه من هذا الجنس.
الثاني: أنه حال من مفعول {خلقه} تقديره: خلقه كائنًا من تراب، وهذا لا يساعده المعنى.
وَالْمَثَلُ هاهنا منهم من فسَّره بمعنى الحال والشأن.
قال الزَّمَخْشَريُّ: إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدمَ. وعلى هذا التفسير فالكاف على بابها- من كونها حرف تشبيه- وفسَّر بعضُهم المثل بمعنى الصفة، كقوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35]، أي: صفة الجنة.
قال ابنُ عَطِيَّة: وهذا عندي خطأٌ وضَعْفٌ في فَهْمِ الكلام، وإنما المعنى: أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمُتَصَوَّر من آدمَ؛ إذ النّاس كلهم مُجْمِعُون على أن الله- تعالى- خلقه من تراب، من غير فحل، وكذلك قوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} عبارة عن المُتَصَوَّر منها. والكاف في {كَمَثَلِ} اسم على ما ذكرناه من المعنى.
قال أبو حيّان: ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وكلام مَنْ جعل المثل بمعنى الشأن والحَال أو بمعنى الصفةِ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: قَد تَقَدَّمَ فَي أوَّلِ الْبَقَرةِ أنَّ الْمَثَلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَن الصِّفَةِ، وَقَدْ لا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَغَايُرِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلاَمُ النَّاسِ فِيهِ، ويدلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ ريِّ الظَّمآنِ عن الفارسيّ الْجَميعِ، وقَالَ: المَثَلُ بِمعنَى الصِّفَةِ، لا يمكن تَصْحِيحُهُ فِي اللُّغَةِ، إنَّمَا الْمثَلُ التشبيه على هذا تدور تصاريفُ الكلمةِ، ولا معنى للوصفية في التشابه؛ ومعنى المثل في كلامهم أنها كلمة يُرْسِلها قائلُها لحكمة تُشَبَّه بها الأمور، وتقابَل بها الأحوال وقد فرق بين لفظ المثل في الاصطلاح وبين الصفة.
قال بعضهم: إن الكافَ زائدة.
وقال آخرون: إنّ مَثَلًا زائدة فحصل في الكافِ ثَلاَثَةُ أقوالٍ:
قيل: أظهرها: أنها على بابها من الحرفية وعدم الزيادة وقد تقدم تحقيقه.
وقال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب ووُجِد آدم من غير أب ولا أمٍّ؟
قلت: هو مثله في أحد الطَّرَفَيْنِ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجودًا خارجًا عن العادةِ المستمرةِ، وهما في ذلك يظهران، ولأن الوجود من غير أب ولا أمٍّ أغرب وأخرق للعادةِ من الوجود من غي رأب، فشبَّه الغريبَ بالأغرب؛ ليكون أقطعَ للخَصْم، وأحسم لمادة شُبْهَتِه، إذا نُظِّر فيما هو أغرب مما اسْتَغْرَبَه. اهـ.

.قال المراغي:

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به، وكفر بعض قومه به، ورميهم أمه بالزنا، وإيمان بعض آخر به.
أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه (كلمة الله وروح الله) أن الله حل في أمه، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها، فضرب مثلا ليردّ به على الفريقين الكافرين به من اليهود، والمفتونين به من النصارى.
فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت، والإنكار إن صح الإنكار.
وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع.
والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا.
وهكذا شأن خلق عيسى، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضى تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها.
وقد روى في سبب نزول الآية أن وفد نجران من النصارى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال وما أقول، قالوا تقول أنه عبد الله قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله الآية.
الأيضاح {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ}.
أي إن شأن عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سابق كشأن آدم في ذلك، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال: {خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ} أي قدّر أوضاعه وكوّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا لزجا.
وفي هذا توضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وقطع لشبه الخصوم، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب مع الاعتراف بخلق آدم من غير أب ولا أم- مما لا ينبغى أن يكون ولا يسلمه العقل.
{ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي ثم أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه كما جاء في قوله: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ». اهـ.